الميكروبات الحلوبة

يسعى مستثمرون لإنتاج الحليب بالإعتماد على ميكروبات معدلة وراثيا قد تخلق لنا حلا أكثر استدامة من البقر ، ولا تزال الدراسات جارية حول هذه الفكرة الطموحة .

قبل ثماني سنوات في مؤتمر صحفي في لندن ، شارك اثنان من خبراء  الطعام في تجربة أول طبق برجر يحتوي على لحم تم إنتاجه في المختبرات .  منذ ذلك الحين ، تسائل الناس عما إذا كانت المختبرات ستحل محل مزارع الماشية في إنتاج اللحوم كأحد الحلول  المستدامة بيئيًا. الآن ، يحول العلماء انتباههم إلى الجبن و مشتقات الحليب. أو ما أصبح يطلق عليه بمنتجات الألبان (المستحضرات الغذائية) الاصطناعية ، ولكن هذا المصطلح يزعج بعض العاملين في مجال هندسة الميكروبات لصنع بروتينات الحليب. و قد كتبت آنا جيرو ، و هيا مسؤولة  عن العلاقات الخارجية في  مؤسسة  تدعى(بيرفكت داي) ، وهي شركة أمريكية تعمل مع شركات الآيس كريم لصنع  و إنتاج نوع من الحليب الصناعي : “ننتج مصل اللبن وبروتين الكازين المتطابق جزيئيًا مع المصل الحليب الطبيعي ، لذا فهي بروتينات حليب حقيقية”.  و تأمل هذه المؤسسة  أيضًا في إنتاج الجبن والزبادي والزبدة من خلال تقنيات مخبرية مماثلة في المستقبل القريب.  وأضافت “نشير عادة إلى منتجاتنا على أنها ألبان غير حيوانية “. و تعتبر شركة  (بيرفكت داي)  واحدة من عديد  شركات التكنولوجيا الحيوية التي تتنافس من أجل الإنتاج الضخم لمنتجات الألبان الصناعية في المعامل بنجاح.  يقول العلماء و المستثمرون الذين يقفون وراء هذه الجهود إنهم يفعلون ذلك لسببين.  أولاً ، يحتاج العالم بشدة إلى حلول غذائية أكثر استدامة.  ثانيًا ، يعتقدون أن هناك طلب متسارع على منتجات الألبان الصناعية التي توفر الفوائد الغذائية ومذاق منتجات الألبان التقليدية.  ولكن بينما يتفق الخبراء على نطاق واسع على النقطة الأولى ، ما زلنا ننتظر بيانات حول مدى ملاءمة الحليب المصنوع في المختبر ومدى سلامته و تأثيره على صحة الناس وعلى البيئة

إلى أين يمتد تأثير مثل هذا الإبتكار؟ 

في تقرير عام 2013 ، وجدت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) أن مزارع الألبان هي ثاني أكثر أنواع المزارع مساهمة في إنتاج غازات الاحتباس الحراري في العالم بعد مزارع اللحوم .  تطلق صناعة الألبان عددًا من الغازات المختلفة في الغلاف الجوي ، لا سيما غاز الميثان وأكسيد النيتروجين .  مزارع الألبان العالمية مسؤولة على ما يعادل عن حوالي 2 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنويًا.  وهذا يعادل ضعف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية لفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة مجتمعة و هذا ليس التأثير الوحيد المسبب للقلق فحسب.  فقد اوضح بول كونونوف ، اختصاصي تغذية الألبان بجامعة نبراسكا لينكولن ورئيس تحرير  مجلة علوم الألبان ، إن الأبقار تفرز الكثير من النيتروجين والفوسفور و اللذي يتسرب إلى البحيرات والأنهار حيث يعمل كسماد ويسبب نموًا مفرطًا للطحالب ، مما يؤدي بدوره إلى تقليص مستويات الأكسجين في المياه ، و هذا قد يتسبب في قتل الحيوانات والنباتات المائية في حين أن صناعة الألبان قد أدخلت تحسينات كبيرة على مدى العقود الأخيرة وقللت من بصمة الكربون  بنسبة لكل كوب من الحليب ، فإن هذه التطورات يتم تجاهلها عند الأخذ بالإعتبار النمو السكاني في العالم . على سبيل المثال ، تقدر منظمة الأغذية والزراعة أنه بحلول عام 2050 ، سيحتاج العالم إلى  إنتاج ضعف كمية الغذاء التي أنتجها في عام 2009 لضمان حصول الناس على التغذية الكافية. حاليًا ، 7.4٪ من إجمالي سوق الحليب في الولايات المتحدة مشغول بألبان نباتية مثل فول الصويا أو اللوز ، ومن المتوقع أن تنمو هذه الحصة السوقية إلى 18.5٪ بحلول عام 2023 ، وفقًا لدراسة أجريت عام 2020.  يُنظر إلى هذه الشعبية المتزايدة على أنها رد فعل للمخاوف البيئية المحيطة بحليب الأبقار التقليدي و بعض الأثار الصحية التي قد يسببها ، وفقًا لأولئك العاملين في الصناعة.  تشير الدراسات إلى أن   حليب البقر ينتج عادة بين 1.14 و 2.5 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون لكل لتر.  انخفض هذا الرقم إلى 0.42 فقط لحليب اللوز و 0.75 لحليب الصويا.  لكن هذا لا يعني أن الحليب النباتي أفضل. فقد قال سكوت رانكين ، أستاذ علوم الغذاء في جامعة  ويسكونسن ماديسون: “تأخذ الأمور أبعادا أخرى عندما يتعلق الأمر بمقارنة الحليب الطبيعي  بالبديل النباتي” ، “الطريقة التي يتم بها تعبئة الكالسيوم في حليب البقر معقدة للغاية ، فهي مصممة بطريقة تسمح لحمض المعدة بحلها ببطء ، وبالتالي يمتص الجسم الكالسيوم على مدى فترة زمنية أطول بدلاً من مجرد المرور عبر الجهاز الهضمي.”  هناك أيضًا بعض المستهلكين الذين لن يستبدلو الحليب الطبيعي لأنهم لا يحبون مذاق البدائل النباتية او الصناعية خاصة من ناحيتي الطعم أوالتغذية.  يحتوي كل مختبر على وصفة و طريقة إنتاج مختلفة حيث أعرب إنجا رادمان ، المؤسس المشارك في شركة( ثقافة جديدة) ،  البدء في صنع جبن الموزاريلا بالكازين الذي تنتجه الكائنات الحية الدقيقة بالمقابل أعلن مايك ليوناردو ، كبير مسؤولي التكنولوجيا في شركة موتيف فود وورك ان الشركة  تنتج أيضًا بروتينات الحليب من الميكروبات ولكنها تعبئها كمكونات إضافية مع الحليب النباتي بدلاً من إنتاج منتجات خاصة به .  “إذا لم نجعل طعم هذه المنتجات أفضل ، فلن نرى إستهلاكا  لهذا النوع  على  النطاق الذي نريده من أجل تعزيز الاستدامة.” هنا تكمن الفجوة التي نوقشت كثيرًا في السوق والتي تسعى جميع هذه الشركات الناشئة إلى تحقيقها  الإستدامة بيئيًا و الربح ، حيث يترددون في الكشف عن الكثير من المعلومات خوفًا من استبعادهم من المنافسة على هذه السوق الصاعدة ، لكنهم جميعًا يعتمدون على  تصنيع البروتينات الرئيسية الموجودة في حليب البقر (الكازين ومصل اللبن)  دون  تدخل حيواني .  كما أنهم يميلون إلى استخدام السكريات النباتية بدلاً من اللاكتوز ، وهو خبر سار للمستهلكين الذين يعانون من عدم تحمل اللاكتوز.  في غضون ذلك ، تأتي الدهون من الخضار و يقوم بعض المنتجين أيضًا بالتلاعب في التركيبة الجزيئية لهذه الدهون لجعلها تشبه ما تصنعه البقرة. كما تضاف الفيتامينات والمعادن مثل الكالسيوم إلى الخليط. و يتم تحديد نوعية هذه المنتجات الصناعية عن طريق النظرفي ما يحتويه المنتج من مادة الكازين وبروتينات مصل اللبن . قال تال غلوبوس ، الباحث في مشروع ( الجبن النباتي الحقيقي) ، وهو مشروع بحثي غير ربحي في كاليفورنيا يهدف أيضًا إلى صنع الجبن باستخدام ما يسميه الزراعة الخلوية: “لا يوجد سبب لضرورة أن تأتي هذه البروتينات من الحيوانات”.  “لقد استخدمنا الخميرة لصنع الجعة على مدى دهور،فلماذا لا يمكننا جعلهم يصنعون البروتينات التي نحتاجها للجبن بدلاً من ذلك؟ ”

مختبرات وليست مراعي! 

تتمثل الخطوة الأولى لصنع منتجات ألبان غير حيوانية  في هندسة الميكروبات وراثيًا لإنتاج البروتينات التي نريدها.  ليس من الضروري أن تكون خميرة أو حتى فطريات  سيكون من الممكن استخدام بكتيريا ، على سبيل المثال.  قال رادمان: “إنك تأخذ الجينات المسؤولة عن إخبار البقرة بكيفية صنع الحليب وإدخالها في الكائنات الحية الدقيقة”. “تصبح في الأساس ميكروبات بقرة صغيرة.” أوضح رانكين من جامعة ويسكونسن ماديسون أن هذا هو علم الأحياء الذي تم تجربته واختباره.  وقال: “إنهم يستخدمون الحمض النووي المؤتلف لخداع الكائنات الحية الدقيقة لصنع بروتينات الحليب”.  “لا يوجد ما يدعو للقلق بشأن ذلك. الكائنات المعدلة وراثيًا هي كلمة طنانة كبيرة حيث يبدو أن الناس قلقون من أن أطفالهم سوف ينمون قرونًا أو شيء من هذا القبيل ، لكنها تقنية أمنة رغم الشكوك .” في الواقع ، يتم تصنيع معظم الأنسولين اليوم بواسطة بكتيريا تم تغيير حمضها النووي ليشمل الجينات البشرية ، ويتم إنتاج لقاح التهاب الكبد بواسطة خميرة الخباز بطرق مماثلة.  بمجرد الانتهاء من الهندسة الوراثية ، قام علماء الأغذية بتشغيل ميكروبات الحليب المعدلة ، مما أدى إلى إنتاج البروتينات المرغوبة في ظل ظروف درجة الحرارة والمغذيات المثلى ، والتي تم تحديدها من خلال سلسلة طويلة من تجارب و دراسة التجربة والخطأ. وقال رانكين “ثم يستخرجون البروتينات ويعيدون تعليقها في الماء المصفى ، لتعديل النسبة للحصول عليها بالشكل الصحيح”.  يقول صانعو الحليب إن بروتينات الحليب هي في المقام الأول ما يمنح منتجات الألبان غير الحيوانية طعمًا أكثر أصالة للحليب مقارنة بالبدائل النباتية مثل فول الصويا.  قال تال غلوبوس من : “هدف جميع الشركات في هذه الصناعة هو الوصول إلى النقطة التي يكون فيها المنتجً مشابهًا [لمنتجات الألبان التقليدية] بحيث يتعين عليك إجراء اختبارات معملية لتحديد الاختلاف”. وهو يعتقد أنهم يقتربون لكنه يتسائل “هل يمكننا صنع جبن مثل هذا؟ بالتأكيد ، لكن هل يمكننا صنعه بتكلفة تنافسية؟” . الإجابة على ذلك ليست واضحة تمامًا ، وبصراحة ، إنها عقبة رئيسية يتعين على الشركات التغلب عليها . قالت رادمان: “نحن بحاجة إلى إيجاد طريقة لتوسيع نطاق الإنتاج  بكفاءة أكثر. علينا العمل على كميات  أكبر ومعرفة كيف يجب تعديل العملية حتى تصبح مضمونة على الصعيد الكم “.  قد يبدو هذا بسيطًا بما فيه الكفاية ، لكنه ليس كذلك.  يمكن للأجهزة ، مثل أجهزة الطرد المركزي المستخدمة لتحليل البروتينات  وكذلك المكونات نفسها أن تتصرف بشكل مختلف إذا تم تطبيقها على نطاق مختلفة

الجانب الغذائي للحليب الصناعي 

يجادل مخترعو منتجات الألبان الجديدة الغير حيوانية  بأن مستويات التغذية التي يوفرها حليب الميكروبات يتفوق على الألبان النباتية ، و ذلك بسبب محتواها النموذجي من السكر بالإضافة إلى محتواها المنخفض من البروتين وتوفر الكالسيوم فيها ، مقارنة بالحليب الحيواني.  ومع ذلك ، لم يقتنع كونونوف من جامعة نبراسكا لينكولن بعد أن حليب المختبر مغذي مثل منتجات الألبان من الحيوانات.  حيث إنه يسعى لأن يرى دراسات تدعم بشكل مباشر منتجات ألبان الميكروبات و تقارنها بمنتجات الألبان الحيوانية. و عبر كونونف عن حاجته إلى الاطلاع على بيانات دقيقة حتى يبين دعمه. يعتقد ليونارد من شركة ( موتيف فود وورك) أن مسألة التغذية في منتجات الألبان غير الحيوانية تستحق مزيدًا من البحث.  هذا هو السبب في أنه يحاول تطوير الدهون المستخلصة من الزيت النباتي حتى تشبه دهون الحيوانات.  قال ليونارد: “إن القدرة على إنتاج الدهون بالطريقة الصحيحة تؤثر على مدى الانتفاع من الفوائد الغذائية”. بعبارة أخرى ، لضمان عدم تعرض منتجات ألبان الميكروبات لمشكل المغذيات كما حصل مع الألبان النباتية ، يحتاج العلماء إلى العمل على أكثر من مجرد البروتينات.  يحتاجون أيضًا إلى التفكير في كيفية تعبئة الكالسيوم والعناصر الغذائية الأخرى التي يضيفونها. قال ليونارد: “لا يمكنك فقط رمي هذه الأشياء في منتج ، بل عليك تجميعها بالطريقة الصحيحة وحسب القواعد الصحية

الجانب البيئي للحليب الصناعي

عندما يتعلق الأمر بالفوائد البيئية ، فإن الخبراء  متفائلون، على الرغم من أن الدراسات لم تظهر بعد. للحصول على حليب الأبقار تحتاج إلى رعاية البقرة  و توفر لها حاجياتها تحول تلك البقرة السعرات الحرارية إلى خلايا تزيد من حجمها و بالتالي يزيد إستهلاكها لطاقة .  بمعنى آخر ، إنها تفعل أكثر من مجرد إنتاج الحليب وهذا يعد إهدارًا للطاقة و أكثر تكلفا .  ومع ذلك ، فإن الميكروب يكون أكثر صعوبة. حيث قال رانكين: “إذا أخذت إنتاج البقرة مقابل إنتاج الفطر و بنفس مقدار الطاقة  سوف يفوز الفطر “.قال رادمان: “لا نعرف الأرقام الدقيقة ، لكننا نفهم حجم التغيير”.  “قد يتم تقليل استخدام الأراضي من 10 إلى 20 ضعفًا و هذا قد يتضمن في حد ذاته تغييرا جذريا في البيئة  بتوقع تقليل انبعاث غازات الاحتباس الحراري بما يعادل عشرة مرات و في توفير وفرة في الغذاء للإنسانية

 

المصدر :

https://www.insidescience.org/news/entrepreneurs-recruit-microbes-make-moo-free-dairy

 

 

ترجمة و تحرير : حازم إسماعيل